الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التنبيه والإشراف (نسخة منقحة)
.ذكر الرياح الأربع ومهابها وأفعالها وتأثيراتها وما اتصل بذلك من تقريظ مصر والتنبيه على فضلها وما شرفت به على غيرها: تنازع الناس في الرياح الأربع ومهابها وطباعها: فقال فريق منهم الرياح أربع شمال وجنوب وصبا ودبور؛ الصبا من المشرق والدبور من المغرب والشمال من تحت جدي الفرقدين، والجنوب من تحت جدي سهيل فالشمال باردة يابسة وهي ما هب من ناحية الجربي وهو الشمال وأشكالها من البروج والكواكب والأمهات وما يشاكل ذلك ويضاف إلى البرد واليبس، والجنوب حارة رطبة وهي التي تهب من القبلة وأشكالها كما وصفت مما يضاف إلى الحرارة والرطوبة، والدبور باردة رطبة وهي التي تهب من المغرب وكذلك أشكالها، والصبا حارة يابسة وهي التي تهب من المشرق وأشكالها مما هو مضاف إلى الحرارة واليبوسة قال المسعودي: وذهب فريق آخر من حكماء الأمم من العرب وغيرهم إلى أن الصبا هي القبول وهي ما هب من مطلع الشمس، والدبور التي تهب من المغرب من دبر من استقبل المشرق، فلذلك سميت الدبور، والشمال التي تهب عن شمالك إذا استقبلت المشرق والجنوب التي تهب عن يمينك إذا استقبلت المشرق، وقد ذكرت العرب ذلك في أشعارها قال أبو صخر الهذلي:وقال هدبة العذري وهو يومئذ بالمدينة مسجوناً: وقال آخر: قال المسعودي: والرياح محدودة بحسب الآفاق تكون الآفاق اثني عشرة أفقاً والرياح كذلك فالشمال بالحقيقة هي التي تجيء من القطب الظاهر والجنوب من القطب الخفي والصبا من مشرق الاعتدال والدبور من مغرب الاعتدال إلا أن الناس لما لم يبن لهم في رأى العين تحديد هذه نسبوا كل يرح تأتي من ناحية المشرق سواء كان من مشرق الاعتدال أو من مشرق الصيفي أو الشتوي أو ما بينهما بعد أن تكون من المشرق إلى الصبا وكذلك فعلوا في الدبور واحتذوا ذلك في الشمال. فسموا كل ريح تأتي من جانب القطب الظاهر وما يليه من جانبيه الشمال وكذلك فعلوا بالجنوب أيضاً.فأما الريح التي تسمي ببلاد مصر المريسية مضافة إلى بلاد مريس من أوائل أرض النوبة في أعالي النيل وهو صعيد مصر فهي باردة تقطع الغيوم وتصفي الهواء وتقوي حرارة الأبدان، وما يهب من أسفل النيل من الريح ويسمي أسفل الأرض فهي شمال وتفعل أضداد هذه الأفعال من تختير الأبدان وأهل مصر يسمونها البحرية وتداومها في الصيف يطيب هواءهم ويبرد ماءهم في الليل والنهار فقد تفعل ذلك الريح الغربية في هذا الفصل إلا أن الأغلب في ذلك الشمال، ويقع الوباء إذا دامت المريسية بمصر، كما يقع الوباء بالعراق إذا دامت الريح في أيام البوارح والشمال عندنا ببغداد تهب من أعالي دجلة مما بلى سر من رأى وتكريت وبلاد الموصل فتقطع السحاب وأيام هبوب المريسية بمصر مقابلة لأيام البوارح ببغداد، لأن المريسية تهب بمصر في كانون الأول وهو كيهك بالقبطية والبوارح بالعراق تهب في حزيران والجنوب ببغداد تهب من أسفل دجلة مما يلي بلاد واسط والبصرة فتثور دجلة وتكثر الغيوم والأمطار والبوارح تدوم أربعين يوماً والمريسية أربعين الهرمان العظيمان اللذان في الجانب الغربي من فسطاط مصرن وهما من عجائب بنيان العالم، كل واحد منهما أربعمائة ذراع في سمك مثل ذلك، مبنيان بالحجر العظيم على الرياح الأربع كل ركن من أركانهما يقابل ريحاً منها، فأعظمها فيهما تأثيراً الجنوب وهي المريسي؛ بتشقيقها الركن المقابل لها منهما، وأحد هذين الهرمين قبر أغاثديمون والآخر قبل هرمس وبينهما نحو من ألف سنة- أغاديمون المنقدم- وكان سكان مصر وهم الأقباط يعتقدون نبوتهما قبل ظهور النصرانية فيهم، على ما يوجبه رأي الصابئين في النبوات لا على طريق الوحي، بل هم عندهم نفوس طاهرة صفت وتهذبت من أدناس هذا العالم فاتحدت بهم مواد علوية فأخبروا عن الكائنات قبل كونها وعن سرائر العالم وغير ذلك مما يطول وصفه ولا تحتمل كثير من النفوس شرحه، وفي العرب من اليمانية من يرى أنهما قبر شداد بن عاد وغيره من ملوكهم السالفة الذين غلبوا على بلاد مصر في قديم الدهر، وهم العرب العاربة من العماليق وغيرهم وقد أتينا في كتاب فنون المعارف وما جرى في الدهور السوالف على أخبار سائر أهرام مصر، وهي عند من ذكرنا من الصابئين قبور أجساد طاهرة وأخبار البرابي التي بسائر بلاد مصر وهي بيوت عبادتهم الكواكب السبعة النيرين والخمسة وغيرها من الجواهر لعقلية والأجسام السمائية التي هي وسائط بين العلة الأولى وبين الخلق وغير ذلك من أخبار مصر وعجائبها وما خصت به من الفضائل التي لا يشرك أهلها فيها غيرهم من أهل البلدان، وهي محدودة على تخوم أفريقية وأرض السودان وبحر الحجاز وبحر الشام وهي البرزخ بين البحرين المذكورين في القرآن؛ لأن في الفرما التي على ساحل بحر الروم إلى القلزم التي هي ساحل بحر الصين مسيرة ليلة يحمل إليها من جميع الممالك المحيطة بهذين البحرين من أنواع الأمتعة والطرائف والتحف من الطيب والأفاويه والعقاقير والجوهر والرقيق وغير ذلك من صنوف المآكل والمشارب والملابس، فجميع البلدان تحمل إليها وتفرغ فيها، ونيلها العجيب أمره الشريف قدره، يمد إذا حسرت مياه الأمطار ويحسر إذا مدت، يأتيها في وقت الحاجة إلى منفعته فيبدأ مخضراً ثم محمراً ثم كدراً ثم يتدافع بأمواجه ويترامى بسيوله، فتكون زيادته في اليوم الإصبع والإصبعين وأكثر فإذا تناهى مدة يغشى الأرض وصارت القرى كالنجوم فوق الروابي والتلال، والمراكب تجري بأهلها في حاجاتهم من بعض إلى بعض قد أعدوا قبل ذلك من أقواتهم وعلوفة حيوانهم ما يكفيهم إلى حسوره عنهم وإبان زراعتهم، فدهرها من أربع صفات؛ فضة بيضاء أوأو مسكة سوداء أو زبرجدة خضراء أو ذهبة صفراء وذلك أن نيلها يطبقها كأنها فضة بيضاء، ثم ينضب عنها فتصير مسكة سوداء، ثم تزدرع فيصير زرعها زبرجدة خضراء، ثم يستحصد زرعها ويصفر فتصير ذهبة صفراء، وكورها نيف وثمانون كورة ليس منها كورة إلا وفيها طريفة أو عجيبة لا تكون في غيرها تنسب إلى تلك الكورة وتعرف بها لكل كورة منها مدينة وقد ورد التنزيل بذلك بقوله عز وجل عند ذكره قصة موسى وفرعون: {أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين} لا مدينة فيها إلا وفيها عجائب البنيان بالصخور والمرمر والبلاط وعمد الرخام التي لا يوجد مثلها في غيرها من البلدان، تؤتى هذه المدن والكور كلها في الماء ويحمل ما يكون بها من الطعام والأمتعة إلى فسطاطها؛ تحمل السفينة الواحدة حمل مائة بعير وأقل وأكثر وهي حجازية شأمية جبلية أما صعيدها وهو أعلاها فأرض حجازية حرها كحر الحجاز تنبت أنواع النخيل الكبير والأراك والدوم والقرظ والهليلج والفلفل والخيار شنبر وأما أسفلها فشأمي يمطر وينبت ثمار الشأم من الكروم واللوز والجوز وسائر الفواكه والبقول والرياحين وأما ناحية الإسكندرية ولوبية والمراقية فبراري وجبال وغياض وزيتون وكروم جبلية بحرية بلاد عسل ولبن ويذكرها أهلها أنهم أكثر الناس قنداً وشهداً وعبداً ونقداً وصوفاً وبغالاً وحميراً وخيلاً عناقاً ونبيذ العسل الذي لا يفي به شراب ودقّ تنّيس ودمياط الذي لا يضاهيه دق ومعدن التبر والزمرد الثمين الذي لا يوجد إلا بها والقراطيس ودهن البلسان وزيت الفجل والقمح اليوسفي وهو أعظم القمح حباً وأطوله شكلاً وأثقله وزناً وطرز البهنسا وأسيوط وأخميم، ومن نواحي معادنها تحمل الزرافة والكركدن وعناق الأرض، وأن وفاء خراجها ست عشرة ذراعاً فإن زاد في النيل ذراعاً زاد في الخراج مائة ألف دينار بما يروى من الأعالي فإن زاد ذراعاً أخرى نقص من الخراج مثلها لما يستبحر من البطون والأسافل، والمعمول عليه في وقتنا هذا وهو سنة 345 أنه إن زاد على الست عشرة ذراعاً أو نقص عنها نقص من خراج السلطان قالوا وجميع البلدان في سائر النواحي والآفاق إنما تعيش بالأمطار وتهلك بإبطائها عنها ومصر مستغنية عن المطر غير مرتاحة ولا محتاجة إليه وسائر أنواع الفواكه والثمار وكثير من الحيوان والألبان لها في جميع البلاد أزمنة وأوقات لا توجد الا فيها ولا تكون إلا معها وذلك بمصر موجود غير معدوم في سائر فصول السنة وغير ذلك من فضائلها وخصائصها فإذ قد ذكرنا الرياح ومهابها وما اتصل بذلك لنذكر الأرض وشكلها ومساحتها والنواحي والآفاق وغير ذلك. .ذكر الأرض وشكلها: وما قيل في مقدار مساحتها وعامرها وغامرها، والنواحي والآفاق وما يغلب عليها وتأثيرها في سكانها وما اتصل بذلك قسم الله تبارك وتعالى الأرض قسمين مشرقاً ومغرباً فصار المشرق والتيمن وهو الجنوب جوهراً واحداً؛ لغلبة الحرارة عليهما وصارت جهة المغرب والجربي وهو الشمال جوهراً واحداً لغلبة البرودة عليهما وشدتها فيهما، وذلك لبعد الشمس من ناحية الجربي، لأن المحور على تلك الناحية وهي أشدهما ارتفاعاً، فمن أجل ذلك صار الجربي بارداً رطباً، وصار المغرب أقل برداً من الجربي، وأكثر يبساً لانحطاط الفلك هناك، وهاتان الجهتان المشرق والتيمن بخلاف ذلك لدنو الشمس منهما والعالم أربعة أرباع فالربع الشرقي وهو ما تسافل عن خط الجنوب والشمال إلى المشرق فهو ربع مذكر يدل على طول الأعمار، وطول مدد الملك والتذكير وعزة الأنفس وقلة كتمان السر وإظهار الأمور والمباهاة بها، وما لحق بذلك، وذلك لطباع الشمس وعلمهم الأخبار والتواريخ والسير والسياسات والنجوم وأما أهل الربع الغربي، فإن الغالب عليه التأنيث إلا ما استولت عليه الكواكب المذكرة، كما يغلب التذكير على المشرق إلا ما غلبته عليه الكواكب المؤنثة، وأهله أهل كتمان للسر وتدين وتأله، وكثرة انقياد إلى الآراء والنحل، وما لحق بهذه المعاني إذ كان من قسم القمر.وأما أهل الربع الشمالي، وهم الذين بعدت الشمس عن سمتهم من الواغلين في الشمال كالصقالبة والإفرنجة ومن جاورهم من الأمم، فإن سلطان الشمس ضعف عندهم لبعدهم عنها فغلب على نواحيهم البرد والرطوبة وتواترت الثلوج عندهم والجليد، فقل مزاج الحرارة فيهم فعظمت أجسامهم وجفت طبائعهم وتوعرت أخلاقهم وتبلدت أفهامهم وثقلت ألسنتهم، وابيضت ألوانهم حتى أفرطت فخرجت من البياض إلى الزرقة ورقت جلودهم وغلظت لحومهم، وازرقت أعينهم أيضاً، فلم تخرج من طبع ألوانهم وسبطت شعورهم، وصارت صهباً لغلبة البخار الرطب ولم يكن في مذاهبهم متانة. وذلك لطباع البرد وعدم الحرارة ومن كان منهم أوغل في الشمال فالغالب عليه الغباوة والجفاء والبهايمة وتزايد ذلك فيهم في الأبعد فالأبعد إلى الشمال، وكذلك من كان من الترك واغلاً في الشمال فلبعدهم من مدار الشمس في حال طلوعها وغروبها كثرت الثلوج فيهم وغلبت البرودة والرطوبة على مساكنهم، فاسترخت أجسامهم وغلظت ولانت فقارات ظهورهم وخرز أعناقهم؛ حتى تأتى لهم الرمي بالنشاب في كرهم وفرهم وغارت مفاصلهم لكثرة لحومهم فاستدارت وجوههم وصغرت أعينهم لاجتماع الحرارة في الوجه حين تمكنت البرودة من أجسادهم إذ كان المزاج البارد يولد دماً كثيراً، واحمرت ألوانهم إذ كان من شأن البرودة جمع الحرارة وإظهارها وأما من كان خارجاً عن هذا العرض إلى نيف وستين ميلاً يأجوج ومأجوج، وهم في الإقليم السادس فإنهم في عداد البهائم وأما أهل الربع الجنوبي كالزنج وسائر الأحابش، والذين كانوا تحت خط الاستواء وتحت مسامتة الشمس؛ فإنهم بخلاف تلك الحال من التهاب الحرارة وقلة الرطوبة؛ فاسودت ألوانهم واحمرت أعينهم وتوحشت نفوسهم وذلك لالتهاب هوائهم وإفراط الأرحام في نضجهم حتى احترقت ألوانهم وتفلفلت شعورهم لغلبة البخار الحار اليابس، وكذلك الشعور السبطة إذا قربت من حرارة النار دخلها الانقباض ثم الانضمام ثم الانعقاد على قدر قربها من الحرارة وبعدها عنها والأرض قسمان على ما قدمنا أحدهما مسكون، والآخر غير مسكون، والعامر المسكون منهما على أقسام أحدها مفرط الحر وهو ما كان من جهة الجنوب لأن الشمس تقرب منه فيلتهب هواؤه والآخر الشمال وهو مفرط البرد لبعد الشمس عنه وأما المشرق والمغرب فمعتدلان وإن كان فضل المشرق وأظهر واعتداله أشهر وأما الذي ليس بمسكون فعلى قسمين أيضاً؛ إما أن يفرط فيه البرد ببعد الشمس عنه أو يفرط فيه الحر لقربها منه فلا يتركب هناك حيوان ولا ينبت نبات فالموضع الذي يكون بعده في الشمال عن خط معدل النهار وستاً وستين درجة لا يمكن أن يكون فيه نشوء لإفراط البرد عليه لبعد الشمس عنه وإن ما كان عرضه ستة وستين جزء وتسع دقائق تكون السنة فيه يوماً وليلة ستة أشهر نهاراً لا ليل فيه وستة أشهر ليل لا نهار فيه يبطل نهاره في الشتاء وليله في الصيف والموضع الذي بعده في الجنوب عن خط معدل النهار تسع عشرة درجة لا يمكن أيضاً أن يكون فيه نشوء لإفراط الحر عليه لقرب الشمس منه قال المسعودي فأما أبطلميوس فإن أقصى ما وجد عنده من العمارة في جهة الشمال الجزيرة المعروفة بثولي في أقصى بحر المغرب من الجهة الشمالية وأن عرضها من معدل النهار في الشمال ثلاثة وستون جزءاً، وحكاه أيضاً عن مارينوس فيما ذهب إليه في حدود المعمور من الأرض، وذهب أبطلميوس إلى أن نهاية العمارة في جهة الجنوبي تحت الموازي الذي بعده من معدل النهار ستة عشر جزءاً وخمس وثلاثون دقيقة وربع وسدس وذهب قوم إلى أن الموضع الذي لا يمكن أن يكون فيه عمارة عرضه في الجنوب أحد وعشرون جزءاً وخمس وثلاثون دقيقة، وإلى هذا ذهب يعقوب بن إسحاق الكندي في كتابه في رسم المعمور من الأرض. وسواء قيل عرض الموضع أو قيل بعده عن خط الاستواء أو قيل ارتفاع القطب عليه، فمقدار نهاية العمارة في الشمال إلى نهايتها في الجنوب ثمانون جزءاً يكون ذلك عند هؤلاء من الأميال خمسة آلاف ميل وأقل من أربعمائة ميل.وأقصى العمران في المشرق أقصى حدود بلاد الصين والسيلي إلى أن ينتهي ذلك إلى ردم يأجوج ومأجوج الذي بناه الإسكندر دافعاً ليأجوج ومأجوج عن الفساد في الأرض، والجبل الذي وراءه ووقع في فجة الردم، ومنه كان مخرجهم بدؤه خارج العمران في الإقليم السابع طرف مبدئه مستقبل المشرق ثم ينعطف إلى ناحية الجنوب ويستقيم ممره طولاً إلى أن ينتهي إلى بحر أوقيانس المظلم المحيط فيتصل به، وأقصى عمران المغرب ينتهي إلى بحر أوقيانس المحيط أيضاً، وكذلك ينتهي أقصى عمران الشمال إلى هذا البحر أيضاً وأقصى عمران الجنوب ينتهي إلى خط الاستواء الذي يكون الليل والنهار فيه سواء أبداً وجزيرة سر نديب من البحر الصيني على هذا الخط أيضاً.قال المسعودي وذكر من عني بمساحة الأرض وشكلها أن تدويرها يكون بالتقريب أربعة وعشرين ألف ميل وذلك تدويرها مع المياه والبحار فإن المياه مستديرة مع الأرض وحدّهما واحد فكلما نقص من استدارة الأرض وطولها وعرضها شيء تم باستدارة الماء وطوله وعرضه وذلك أنهم نظروا إلى مدينتين في خط واحد أحداهما أقل عرضاً من الأخرى وهما الكوفة ومدينة السلام فأخذوا عرضيهما فنقصوا الأقل من الأكثر ثم قسموا ما بقي على عدد الأميال التي بينهما فكان نصيب الدرجة مما يحاذيهما من أجزاء الأرض المستديرة ستة وستين ميلاً وثلثي ميل على ما ذكر أبطلميوس فإذا ضربوا ذلك في جميع درج الفلك التي هي ثلثمائة وستون درجة كان ذلك أربعة وعشرين ألف ميل، وكان قطرها الذي هو طولها وعرضها وغلظها سبعة آلاف ميل وستمائة وسبعة وستين ميلاً، والميل أربعة آلاف ذراع بالسواء وهو الذراع الذي وضعه المأمون لذرع الثياب ومساحة البناء وقسمة المنازل، والذراع أربع وعشرون إصبعاً والإصبع ست شعيرات مضموم بعضها إلى بعض والفرسخ بهذا الميل ثلاثة أميال ومنهم من يجعل الميل ثلاثة آلاف ذراع والفرسخ أربعة أميال وكلاهما يؤولان إلى شيء واحد وفيما ذكرناه من مقدار حصة الدرجة من الأميال تنازع فمنهم من رأى أن ذلك سبعة وثمانون ميلاً ومنهم من رأى ذلك ستة وخمسون ميلاً وثلثي ميل والمعول في ذلك على ما حكيناه عن أبطلميوس والأرض من أربعة جواهر من الرمل والطين والأحجار والأملاح وجوفها أطباق يتخرق فيها الهواء ويجول فيها الماء مواصلاً لها كمواصلة الدم للجسد فما غلب عليه الهواء من الماء كان عذباً شروباً وما امتنع الهواء من التمكن منه وغلبت عليه أملاح الأرض وسبخها صار ملحاً أجاجاً وأن كون مياه العيون والأنهار في الأرضين كالعروق في البدن وأن الحكمة في كون الأرض كريةالشكل؛ إنها لو كانت مسطوحة كلها لا غور فيها ولا نشز يخرقها لم يكن النبات وكانت مياه البحار سائحة على وجهها فلم يكن الزرع ولم يكن لها غدران تفضي مياه السيول إليها، ولا كانت لها عيون تجري تنبع بالماء أبداً لأن مياه العيون لو كانت منها تخرج دائماً لفنيت ولصار الماء أبداً غالباً على وجه الأرض فكان يهلك الحيوان ولا يكون زرع ولا نبات فجعل عز وجل منها أنجاداً ومنها أغواراً ومنها أنشازاً ومنها مستوية، وأما أنشازها فمنها الجبال الشامخة ومنافعها ظاهرة في قوة تحدر السيول منها فتنتهي إلى الأرضين البعيدة بقوة جريها ولتقبل الثلوج فتحفظها إلى أن تنقطع مياه الأمطار وتذيبها الشمس فيقوم ما يتحلب منها مقام الأمطار ولتكون الآكام والجبال في الأرض حواشر للمياه لتجري من تحتها ومن شعوبها وأوديتها، فيكون منها العيون الغزيرة ليعتصم بها الحيوان ويتخذها مأوى ومسكناً، ولتكون مقاطع ومعاقل وحواجز بين الأرضين من غلبة مياه الأمطار عليها وما لا يحصيه إلا خالقها قال المسعودي: وقد تختلف قوى الأرضين وفعلها في الأبدان لثلاثة أسباب كمية المياه التي فيها وكمية الأشجار ومقدار ارتفاعها وانخفاضها، فالأرض التي فيها مياه كثيرة ترطب الأبدان والأرض العادمة للمياه تجففها. وأما اختلاف قوتها من قبل الأشجار فإن الأرض الكثيرة الأشجار؛ الأشجار التي فيها تقوم لها مقام السترة فبهذا السبب تسخن. والأرض المكشوفة من الأشجار العادمة لها حالها عكس حال الأرض الكثيرة الأشجار.وأما اختلاف قواها من قبل مقدار علوها وانخفاضها؛ فلأن الأرض العالية المشرفة فسيحة باردة والأرض المنخفضة العميقة حارة ومدة. ومنهم من رأى أن أصناف اختلاف البلدان أربعة أولها النواحي والثاني الارتفاع والانخفاض والثالث مجاورة الجبال والبحار لها والرابع طبيعة تربة الأرض وذلك أن ارتفاعها يجعلها أبرد وانخفاضها يجعلها أسخن على ما قدمنا. وأما اختلافها من جهة مجاورة الجبال لها فمتى كان الجبل من البلد من ناحية الجنوب جعله أبرد لأنه يكون سبب امتناع الريح الجنوبية، وإنما تهب فيه الشمالية فقط. ومتى ما كان الجبل من البلد من ناحية الشمال جعله أسخن لامتناع هبوب الرياح الشمالية فيه، وأما اختلافها لمجاورة البحار لها فمتى كان البحر من البلد في ناحية الجنوب كان ذلك البلد أسخن وأرأرطب، وإن كان من البلد في ناحية الشمال كان ذلك البلد أبرد وأيبس. وأما اختلافها بحسب طبيعة تربتها فمتى كانت تربة الأرض صخرية جعلت ذلك البلد أبرد وأجف، وإن كانت تربة البلد جصية جعلته أسخن وأجف، وإن كانت طينية جعلته أبرد وأرطب وبقاع الأرض مختلفة بحسب اختلاف الطبائع وما تؤثره فيها الأجسام السمائية من النيرين وغيرهما فغلب طبع كل أرض على ساكنها كما نشاهد الحرار السود والأغوار؛ وحشها إلى السواد ووحش الرمال البيض على ذلك اللون فإن كانت الرمال أحمر فوحشها عفر وهو لون التراب، وكذلك وحش الجبال من الأراوي وغيرها يكون على ألوان تلك الجبال إن حمراً وإن بيضاً وإن سوداً.وعلى هذا السبيل تكون القملة في الشعر الأسود سوداء وفي الشعر الأبيض بيضاء وفي المشيب شهباء وفي الأحمر حمراء ومن الفلكيين من يرى أن كل جزء من أجزاء الأرض يناسب جزء من أجزاء الفلك ويغلب عليه طباعه لأن في أجزاء الفلك المضيء والمظلم والفصيح والأخرس وذا الأصوات والمجوف وغير ذلك من نعوت الدرج، فلذلك يكون كلام أهل الموضع الواحد مختلفاً على قدر ما تصلح فيه السعود وتفسد فيه النحوس ثم يختلف أهل اللسان الواحد في المنطق واللهجات قال المسعودي: وقد ذم أبطلميوس القلوذي آراء كثير ممن تقدمه ممن عني بعلم معمور الأرض وغايات ذلك ونهاياته مثل مارينوس وأبرخس وطيمستانس وغيرهم في قبول أقاويل المخبرين من التجار وغيرهم من نهاية المعمور وأن ذلك قد يدخله الكذب والزيادة والنقصان فيما أخبروا به من وصولهم إلى هذه المواضع النائية والعمائر القاصية في البر والبحر، ثم اضطر أبطلميوس لما أراد علم ذلك والوقوف عليه إلى أن يستعمل ما أنكره على من ذكرنا من جهة الخبر فبعث بثقات من رسله في الآفاق ليعرف الغابات من عمران الأرض المسكونة فعمل على أخبارهم مقايساً بها ما وجده بالدلائل النجومية، وهذا دخول منه فيما أنكره، وقد ذكر في كتابه المترجم بمسكون الأرض بلداناً ومدائن كثيرة ووصف أطوالها وعروضها ورسم للناس صورة معمور الأرض على ما رسم فيها من مواضع الكور والبحار والأنهار في الطول والعرض، وقد قال أرسطاطاليس في المقالة الثانية من كتابه في الآثار العلوية لقد أعجب من الذين يصورون أقطار الأرض وأبعادها فإنهم يصورون الأرض المعمورة مستديرة والقياس والعيان يشهدان على أنها على خلاف ذلك وأنه لا يمكن أن يكون ذلك أما القياس فيثبت أن عرض الأرض محدود وأن طولها ليس بمحدود أعني أن طول الأرض كله يمكن أن يسكن لحال مزاجه وذلك أن الحر والبرد لا يكونان مفرطين في طول الأرض لكن في عرضها، ولو لم يكن البحر يمنع لكان طول الأرض كله مسلوكاً قال والعيان يشهد أيضاً على أن طول الأرض يسلك في البر والبحر لأن الطول مخالف للعرض كثيراً قال المسعودي وقد ذكرنا في كتاب فنون المعارف وما جرى في الدهور السوالف ما ذهبت إليه الفرس والنبط في قسمة المعمور من الأرض وتسميتهم مشارق الأرض وما قارب ذلك من مملكتها خراسان وخر: الشمس فأضافوا مواضع المطلع إليها والجهة الثانية وهي المغرب خربران وهو مغيب الشمس والجهة الثالثة وهي الشمال بأخترا والجهة الرابعة وهي الجنوب نيمروز وهذه ألفاظ يتفق عليها الفرس والسريانيون وهم النبط وما ذهب إليه اليونانيون والروم في قسمة المعمور من الأرض على ثلاثة أجزاء وهي أورفا، ولوبية، وآسية وغير ذلك من كلام سائر الأمم في هذه المعاني، فلنقل الآن في الأقاليم وصفتها وما قيل في قسمتها وغير ذلك..ذكر الأقاليم السبعة وقسمتها وحدودها وما قيل في طولها وعرضها وما اتصل بذلك: كل ما كان من الأرض معموراً فهو مقسوم بسبعة أقسام يسمي كل قسم منها إقليماً وقد تنازع من عني من حكماء الأمم وفلاسفتهم بعلم الهندسة ومساحة الأرض في هذه الأقاليم السبعة أفي الشمال والجنوب أم في الشمال دون الجنوب؟ فذهب الأكثرون إلى أن ذلك في الشمال دون الجنوب لكثرة العمارة في الشمال وقلتها في الجنوب ورأى قوم أن القدماء إنما قصدوا لقسمة الأقاليم السبعة في الجانب الشمالي من خط معدل النهار ولم يقسموا في الجنوب شيئاً لقلة قدر العمارة في الجنوب عن الخط وذهب هرمس في متبعيه من المصريين وغيرهم إلى أن في الجنوب سبعة أقاليم كما هي في الشمال وكان يجعل قسمة أقاليم العمران من الشمال مدورة فيجعل الإقليم الرابع وهو إقليم بابل واسطاً لها وستة دائرة حوله وإن كل إقليم سبعمائة فرسخ في مثله فالإقليم الأول الهند والثاني الحجاز والحبشة والثالث مصر وإفريقية الرابع بابل والعراق والخامس الروم والسادس يأجوج ومأجوج والسابع يوماريس والصين ويبتدئ جميعها من المشرق مما يمر ببلاد الصين وغيرها، فحد الإقليم الأول البحر مما يلي المشرق والثاني البحر مما يلي الحجاز والثالث الديبل من ساحل المنصورة من أرض السند والرابع حد الإقليم السابع مما يلي الصين أطول ساعات نهاره ثلاثة عشرة ساعة وحد الإقليم الثاني البحر مما يلي عمان إلى الشحر، والأحقاف إلى عدن أبين إلى جزائر الزنج والحبشان، وأطول ساعات نهاره ثلاث عشرة ساعة نصف وحد الإقليم الثالث وينتهي إلى أرض الحبشة مما يلي الحجاز إلى بحر الشأم الذي بين مصر وأرض الشام إلى وسط البحر الذي يلي الأندلس مما يلي المغرب أطول ساعات نهاره أربع عشرة ساعة. وحد الإقليم الرابع الثعلبية والثاني وسط نهر بلخ والثالث خلف نصيبين باثني عشر فرسخاً من ناحية سنجار والرابع وراء الديبل من ساحل المنصورة من بلاد السند بستة فراسخ أطول ساعات نهاره أربع عشرة ساعة ونصف ساعة وحد الإقليم الخامس بحر الشام إلى أقصى أرض الروم مما يلي البحر إلى تراقية وبلاد برجان والصقالبة والأبر إلى حد أرض يأجوج ومأجوج إلى حد الإقليم الرابع مما يلي نصبين أطول ساعات نهاره خمس عشرة ساعة إلى حد الاقليم السادس من الصين إلى حد الإقليم الخامس إلى البحر مما يلي المشرق أطول ساعات نهاره خمس عشرة ساعة ونصف، وحد الإقليم السابع أرض الهند إلى حد الإقليم الرابع إلى حد الإقليم السادس إلى البحر أطول ساعات نهاره ست عشرة ساعة، وفي كتاب مارينوس أن مساحة هذه الأقاليم في الطول ثمانية وثلاثون ألفاً وخمسمائة فرسخ في عرض ألف فرسخ وسبعمائة وخمسة وسبعين فرسخاً، وقد أنكر ذلك على مارينوس جماعة ممن تقدم وتأخر قال المسعودي: بين الأسلاف والأخلاف من حكماء الأمم في مقادير هذه الأقاليم السبعة وأطوالها وعروضها وعدد ساعاتها وابتدائها وغاياتها وما فيها من مساكن الأمم في البر والبحر تنازع كثير، وقد أتينا على شرح كثير من ذلك فيما تقدم من كتبنا. ورأيت هذه الأقاليم مصورة في غير كتاب بأنواع الأصباغ. وأحسن ما رأيت من ذلك في كتاب جغرافيا لمارينوس وتفسير جغرافيا قطع الأرض وفي الصورة المأمونية التي عملت للمأمون اجتمع على صنعتها عدة من حكماء أهل عصره صورة فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره وعامره وغامره ومساكن الأمم والمدن وغير ذلك، وهي أحسن مما تقدمها من جغرافيا أبطلميوس وجغرافيا مارينوس وغيرها. |